وصيتي إلى ولاة الأمور من ملوك ورؤساء وأمراء وسلاطين
SR_inside_cut

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
   

الحمد لله الملك العادل، المهيمن القادر، العزيز القاهر، الذي انقاد الوجود لحكمه، وقام الكون على سنن علمه، العالم بما يجري في كونه، فما يخفى عليه صغيرة ولا كبيرة من خلقه.

أحكم نظام العدل في كل ذرة ومجرة، ووضع ميزان القسط في السخط والمسرة، فإن رضي بفضله على خلقه أغدق عليهم النعمة، وإن سخط على أحد من عباده أمهل له النقمة، جعل نظام الأملاك والأفلاك قائماً على التدبير والتـقدير، فما من وجود وموجود إلاّ وهو به عليم خبير.

سبحانه أحاط بخلقه علماً، فرزق الجنين بين الأحشاء، كما رزق الملوك من النعم ما يشاء وملأ قلب الفقير رضى، كما ملأ جيب الغني غنى، وأسعد الجاهل الغبي، كما أنعم على العالم الذكي.

ثم تـفضَّل على الكون بإعزاز بعض خلقه، واختصَّهم بخاصية فضله، بأن جعلهم خلفاءه في الأرض وملكهم بسط سلطانهم لتحيا بهم الأرض، ويسعد بهم الخلق، وينتـشر بهم العدل، وجعل بيد كل منهم زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود، فهم حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به ينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم وينتصر مظلومهم.

والصلاة والسلام على سيد أسياد الوجود بل سيد ولد آدم في هذا الوجود، من تـنازل عن لقب الملك إلى العبد، فساس الخلق بالحب والود، عفا عن المتعدي الظالم، ورد الحق إلى المقهور المظلوم، وسوّى بين الملك والمملوك بل رفع المملوك إلى رتبة الملوك.

وعلى آله وصحبه وأتباعه وكل والٍ نهجَ نهجه إلى يوم الدين، وبعد:

 أيها المسؤول اعلم ـ وفقك الله ـ أن الأمير المخلص لا يهدأ فكره ولا تسكن خواطره، ولا يصفو قلبه ولا يستـقر لبّـه حتى يؤدي ما عليه، ويبذل جميع ما لديه.

فالخلق في شغل عنه وهو مشغول بهم، والرجل يخاف عدواً واحداً وهو يخاف ألف عدو والرجل يضيق بتدبير أهل بيته وهو مدفوع لسياسة جميع أهل وطنه.

ومن العجب العجاب أنّ له نفساً واحدة، وأنه يأخذ من قوت الدنيا ما يأخذه أحد الرعية. والعجب أنه رجل ينال رغيفاً ويحاسَب عن ملايين يحمل أثـقالهم ويريح أسرارهم ويجاهد عدوهم ويسد ثغورهم, وهم له قالون وبغيره راضون.

ولولا أنّ الله يحُول بين المرء وقلبه ما رضي بهذه المنزلة أحد ولا اختارها لبيب. ومثال المسؤول مع الرعية كالطبّاخ مع الأكلة, له العناء ولهم الحارُّ الناضج وله القار(1) الفالج(2).

واعلم أيها المسؤول: أنّ الرياسة بمنزلة رجل, فرأسه أنت, وقلبه وزيرك, ورجلاه رعيتك  ويداه أعوانك, وروحه عدلك.

ويتم العدل بأن تعامل كبير الأمة أباً, وأوسطهم أخاً, وأصغرهم ابناً, فبُرَّ أباك, وأكرم أخاك, وارحم ابنك, تصل بذلك إلى فضل الله ورحمته, وإذا عدل السلطان فيمن قرُب منه صلح له ما بعُد عنه.

وعدة قيام السلطة ثلاثة: مشورة النصحاء, وثبات نيّات الأعوان, والسعي لإقامة سوق العدل, وما أجمل قول سيدنا علي رضي الله عنه: (إمام عادل خير من مطر وابل, وأسدٌ حطوم خير من سلطان ظلوم, وسلطان ظلوم خير من فتـنة تدوم).

وإنّ منزلة السلطان من الرعية منزلة الروح من الجسد, إن صفت عن الكدر سرت إلى الجوارح سليمة, وإن تكدرت أو فسد مزاجها سرت إلى الجوارح منحرفة الاعتدال فمرضت وتعطلت وجرى الفساد إلى الجسد.

وعليك أيها المسؤول أن تكون ضابطاً لنفسك، قاهراً لرعيتك راعياً لحقوقهم، فأنت سراج الرعية، بك يستـنيرون وبعدلك  يرفلون، فإنّ الرعية بلا رئيس كمثل بيت فيه سراج منير وحوله رجال قيام كل بصنعته فبينما هم يعملون إذ طفئ السراج فقبضوا أيديهم، وتعطلت أعمالهم، وبالظلام تحرك الحيوان الشرير، وخشخش الهوام الخسيس، ودبت العقرب من  مكمنها، وفسقت الفارة من جحرها، وخرجت الحية من معدنها، وجاء اللص بحيلته، وهاج البرغوث مع حقارته، فتعطلت المنافع، وانتـشرت المفاسد، فلا تطفئ نور عدلك عن رعيتك.

والعدل الناجح هو أن يجمع المسؤول إليه العلماءَ الأصفياءَ والفقهاءَ الأتقياءَ، والمخلصين الأنقياء، الحافظين لحدود الله، والناصحين لعباد الله مع أولي السداد من الرأي وأولي الخبرة من الرجال في كل أمر، ويتداول معهم كل شأن فيه مصلحة الأمة، وهذا يميل قلب الرعية إليه وتخلص نيّاتهم لولي أمرهم ويوقرونه ويتـفانون في محبته.

والحاكم الحازم لا يتم حزمه إلاّ بمشاورة الوزراء الأخيار، ولا يتم عدله إلاّ باستـفتاء العلماء الأبرار، ولا تـنسَ قول الهرمزان(3) لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (عدلت فأمنت فنمت).

ومن اتخذ العدل سنة كان له أحصن جُنَّة.

والمسؤول إن أراد نشر صيته وجميل ذكره فليُـقِمْ سوق العدل، وإن أحب الزلفى إلى الله وشرف المنزلة عنده فليعمل بالعدل، وإن أراد كرامة الدارين فليَـقُم بالعدل.

ولقد قال ملك فارس لقاضي القضاة: ما شيء يعتـز به السلطان؟ قال: الطاعة. قال: فما ملاك الطاعة؟ قال: التودد للخاصة، والعدل على العامة. قال: صدقت.

___________________________________________________________

(1) القار: هو البارد الذي له ريح.

(2) الفالج: ريح يأخذ الإنسان فيذهب بشقه. انظر:(اللسان والقاموس والتاج: فلج).

(3) الهرمزان: واحد من قادة الفرس، أسره المسلمون وأتوا به إلى سيدنا عمر رضي الله عنه، وتظاهر بالإسلام، وفي أغلب الأخبار أنه تواطأ مع أبي لؤلؤة المجوسي على قتل سيدنا عمر.  وقد قتله عبيد الله بن عمر بعد مقتل سيدنا عمر مباشرةً ثأراً له. انظر: (الفاروق عمر بن الخطاب، 290-325. محمد رضا، ط. الثالثة، دار الكتب العلمية، بيروت-1983).