وصيتي لأخواني وأحبابي في الله
SR_inside_cut

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أبدؤها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أنا شفيعٌ لكل أخوين تحابّا في الله من مبعثي هذا إلى يوم القيامة" (1).

أحبابي في الله: لـقد علم القاصي والداني أن أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله – جلّ وعزّ – الحب في الله والبغض في الله.

ولطالما تجالسنا على محبة الله وذكره، وافترقنا على محبة الله والوصاية بمراقبته.

وها أنا أفارقكم بجسدي استجابة لنداء ربي، وشوقاً إلى لـقائه وطرباً بما أحب، ورضاً بما أراد،  ولقد أبَى عليَّ إيماني أن أفارقكم قبل أن أودع عندكم بعض الوصايا، رجاء أن ينفعكم الله بها بعد انتـقالي إلى يوم لقائي بكم على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم  إن شاء الله غير خزايا ولا ندامى بفضل الله وتوفيقه.

أحبابي: اعلموا أنه ليس على وجه البسيطة من شيء يتعلق به القلب أو يستحق ذلك. فإن الكون كله فناء بما فيه، ومن تعلق بفناء فني به، وكمال المؤمن أن يتعلق قلبه بالله الواحد الأحد الباقي، ليبقى خالداً في جواره، مستأنساً بقربه، مدركاً لعطائه، مشاهداً لجماله.

لذلك الحق أقول لكم: إنّ من أراد كمال الآخرة وسعادة اللـقاء بها، فليُكثر في الدنيا من ذكر الله تعالى، ذكر الحضور معه وذكر المراقبة له، والخشية منه، وذكر المهابة لجلاله والتعظيم لعظمته.

الذكر الذي يورث القلب خضوعاً بين يديه، ولذة بالطاعة لديه، الذكر الذي يمحو من القلب المَيل إلى الأغيار، ويجذب العبد للتخلّق بخُلق الأبرار، ويحقق في العبد التذلل بين يدي الجبار.

الذكر يحجب العبد عن الغفلات، ويبعده عن الزلات، ويسمو به إلى لذة الطاعات، ويثمر في حياته أكمل العبادات. الذكر الذي يهب للعبد خدمة عباد الله  تـقرباً إلى الله، ويسعى بجهده لكشف كربات العباد حباً في الله، فهو مع الخلق بجسمه، ومع الخالق بقلبه ورسمه، ويرى العباد صوراً تـنعكس فيهم تـقادير الله، ومرايا تـتجلى فيهم أنوار الله  ليظهر الكمال في التدبير، والجمال في التـقدير، والتحقيق بالرضا.

ثم بعد الذكر أحبابي: أَكمل ما تسعون له، وتـتحببون إليه كتاب الله تلاوةً وتدبراً وفهماً وتخلقاً، ثم تعلماً وتعليماً ليكون كل منكم قرآناً مجسماً بكمالاته، وصوراً مزينة بجمال أخلاقه، وآداباً راقية بتحقيق صفاته، الزموا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وتدبروا آياته المقروءة والمنظورة، واجعلوه إمامكم في جميع أحكامه، وأمامكم في جميع أهدافه والاقتداء به، وعن يمينكم في جميع أخلاقه وعطائه، وعن يساركم في جميع نهيه وزواجره، واجعلوا وعيَه من ورائكم في حفظكم من مخالفته، وجلاله فوقكم في ظلال تجَـلِّياته وأنوار قُدسه، وفي سبيلكم للسير على نهجه ومنهاجه، وفي قلوبكم إجلاله وتعظيمه وتـقديسه، فهو روح المؤمنين وسبيل الصادقين الصدّيقين، ومحراب المتعـبّدين، ووصال العارفين، ومنهاج الموفّـقين، ولذة المستأنسين، ومناجاة المقربين، وحضور المشاهدين، ما أوجد الله في هذا الوجود بعد ذكر اسمه أكمل من تلاوة كتابه، لذلك جمعهما في آية واحدة؛ قال تعالى: ()(2).

فأوصيكم يا أحبابي بدوام تلاوته، بعد ذكر اسمه العظيم، ومواصلة التـفكر به والتدبر له، لتكونوا من السعداء الموفقين والأتـقياء الصالحين. وإياكم ثم إياكم أن تـتخذوا القرآن للمَغنى من غير مَعنى، أو للبركة من غير فهم، ولا للموتى من غير تدبر وعلم، فيكون بذلك إثمه عليكم.

وبعد أن تُـتَوِّجوا أعمارَكم بالذكر والقرآن، زيّـنوا حياتكم وأوقاتكم بكثرة الصلاة والسلام على النبي العدنان، سيد الخلق من الإنس والجان، ونور الوجود وما فيه من السكان، فهو النبي المصطفى، والحبيب المجتـبَى، وإمام الأنبياء، وسيد الأصفياء، وخير مخلوقات الله في الأرض وفي السماء، صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، وله المقام الأسمى، يسقي من حوضه المؤمنين، وهو قائد الغُرِّ المحجّـلين.

أوصيكم بدوام الصلاة عليه، وأشفِعوها بالسلام وكأنكم لديه، فإنّ صلاتكم غداً معروضة عليه، فهي تـفريج للكرب وتطهير للنفس من الغضب، وجاذبة لروحه المؤنسة، ورابطة بذاته المقدسة، وهي طريق القرب وباب محبة الوصل، من أُكرم بها فاز ونجا، ومن لاذ بها أفلح وسما، فطوبى لمن جعل الصلاة عليه وسيلة الحب والقرب إليه.

وأوصيكم بعد ذلك بالتزام مجالسة العلماء الصالحين، والفقهاء الذاكرين، والأتـقياء الروحيين، فإن "العلماء سُرُج الدنيا ومصابيح الآخرة" (3) وهم نجوم الاهتداء وأئمة الإقـتداء.

ولَمُجالسة عالِم ساعة خير من عبادة ستين سنة نوافل على جهل، وإنّ العالِم مَـثَله فيكم كمثل السكّر يذوب ليحلو به الشراب، وكذلك العالِم العارف يذوب في محبة الله ليوجِّه القلوب إلى حبه فتحلو بذكره، وتطرب بشهوده، وتطيب بوصاله.

والعارف هو من عَرّف بالله، وهو الذي لا يكّل لسانُه عن الدلالة على الله ولو كان في أحلك الأوقات، حيث يرى أنّ تبليغ الإيمان هو فيض سر الله في سره، وإفاضة نور الله في قلبه، وصدق والله القائل: (العارف بالله إن نطق اخترق وإن سكت احترق) لذلك أوصيكم إن رأيتم أصابني شدة من الآلام أو تـشديد عند النزع، فأتوني بمن أدعوه إلى الله وأُذَكِّرُهُ بالله، وأبث فيه روح محبة الله، فإن ذلك يخفف آلامي وينشط روحي للعروج إلى محبوبي.

ومجالسة العلماء مع المحبة لهم والإخلاص إليهم والصدق معهم تجعل القلب إناء لتوجهات قلوبهم، وصب أنوارهم وحكمهم، وأجمل ما في صحبتهم سريان كمالاتهم وأخلاقهم وخشيتهم إلى قلبك وأعمالك وأخلاقك من غير تكلف، وصدق ابن مسعود(4) بقوله: ( لجلسة مع عمر أوْثَـقُ في نفسي من عبادة سنة).

فأوصيكم بالتـفتيش عن العلماء المخلصين والتـنقيب عن العارفين المقربين، فالزموهم واعملوا بتوجيهاتهم، وألزِموا أنفسكم التخلق بأخلاقهم فهم أحد الشفعاء في الآخرة، والعالِم يشفع لمن تبعه يوم القيامة، ويكفي العبد شقاءً وخزياً في الدنيا والآخرة أن لا يكون له صلة بعالم يرشده للشرع، ويدله على الطاعة، ويحببه بالله، ويذكره بلقاء الله، ليسعد في دينه ودنياه وآخرته.

 

 

(1) رواه أبو نعيم في الحلية عن سلمان رضي الله عنه. وانظره في (كنز العمال، 9: 4، رقم 24644).

(2) (ك: 36:يس: الآية:69).

(3) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه. وانظره في الجامع الصغير، 1 :17، رقم :(94).

(4) وهو سيدنا عبد الله بن مسعود بن عافل بن حبيب الهذلي(...-32 هـ / ...- 653م): كنيته أبو عبد الرحمن، وهو صحابي من أكابر الصحابة فضلاً وعقلاً وقرباً من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو  من أهل مكة ومن السابقين إلى الإسلام، وهو أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة في نوادي قريش. وكان الخادم الأمين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب سره، ورفيقه في حله وترحاله وغزواته، يدخل عليه في كل وقت و يمشي معه، نظر إليه سيدنا عمر رضي الله عنه يوماً فقال: (وعاء ملىء علماً). وَلي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه، فتوفي فيها عن نحو ستين عاماً. كان قصيراً جداً، يكاد الجالسون يوارونه، كان يحب الإكثار من التطيب، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مَرّ؛ من طيب رائحته. له 848 حديثاً، أورد الجاحظ له خطبة ومختارات  من كلامه في البيان والتبيين، ج 2 ص 27. انظر: (الإصابة،  2: 360، ترجمة 4955، ابن حجر، مطبعة  مصطفى محمد، مصر-  1939). و(أعلام الزركلي، 4: 137) وفي حاشيته ذكر لمصادر أخرى.