وصيتي لكل عالم
SR_inside_cut

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العليم بما تخفي الصدور, والخبير بما تُـكِنه النفوس, المتصف بكمال صفات العلم بانكشاف ما دقّ وجلّ من ذرات وكون ونجم.

والصلاة والسلام على سيد الأنبياء ومورِّث العلماء بقوله:"يرث هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله" (1)، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين.

وبعدُ يا أخي العالم: اعلم أنّ العالم لا يكون عالماً بالوراثة، ولا يتحقق بالدراسة حتى يتأصل في نفس العالم ثلاث: خشية الله في السر والعلن، ومراقبة الله في العمل والسكن والخلوة والجلوة، وتـقوى الله في اللقمة والكلمة.

والعالم أمين سر الله على شرع الله الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعالم هو المأمون على دراية كتاب الله دراسة ووعياً، والعمل به أمراً ونهياً، والتخلق به سراً وجهراً، والمعلم له لفظاً وعملاً، والمؤدب به خوفاً ورجاءً. كما أنه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سنته المطهرة، وطريقته المعطرة، اقتداءً بأخلاقه وتأسياً بآدابه، واتباعاً لأعماله، فهو القدوة العظمى، والغاية المثلى، من جعله أمامه صلحت إمامته، ومن اتخذه قدوته صلح للناس قدوة، ومن تذوق محبته كان عند الخلق محبوباً.

أخي العالم: هذه وصيتي أقدمها إليك لعلَّ الله  أن يجعلني وإياك من المتبعين المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، الراشدين المرشدين، الصالحين المصلحين، الذاكرين المذكرين، الهادين المهديين، وأوصيك أولاً: بإحياء علمك،  وإماتة نفسك، وإخلاص عملك، وتصحيح هدفك؛ أما إحياء العلم فيكون بثلاث: دوام مدارسته، والعمل به، وتعليمه، ويعينك على هذه الثلاث أن يكون ممتزجاً بعلم القلب الذي هو خشية الله لتعمل بالحديث: "كفى بالمرء علماً أن يخشى الله"(2) . وهذا هو العلم النافع كما قال صلى الله عليه وسلم: "العلم علمان: فعلم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم" (3).

 
                وأَدِمْ لِلْعِلْمِ مُذَاكَرَةً       فحياةُ الْعِلْمِ مُذَاكَرَتُهْ
(4)

وترك مداومة الدراسة تـنسي العلم، وهو الآفة العظمى، وفي الحديث: "آفة العلم النسيان" (5).

وترك العمل به تجعله لقلقة لسان وهو حجة الله على ابن آدم.

وعدم تعليمه يجعله علماً راكـداً، كماء صاف طال ركوده فأسِنَ، فلا هو يسـتسـيغ شربه ولا هو يستطيع أن يسـقيه لأحد.

وأما إماتة النفس: فالنفس هي البلاء الأكبر للعالم حيث تُدخِلُ عليه العجب بعلمه، وهو من الكبائر؛ فيحبط عمله، أو تُدخِل عليه الكبر وهو كذلك من الكبائر، وكفى بإبليس عالماً متكبراً.

والنفس تحيي في الإنسان الرياء في العلم والتعليم، وتـنبت في القلب الحقد والحسد للعلماء،  وخاصة إذا رأى عالماً نفع الله به العباد وفتح عليه بالدعوة والإرشاد، فعندها يُبتلى بالطعن فيهم، ويذكر مثالبهم، ويُنَقِّصهم بل ويتهمهم، وكفى بذلك شقاء حرمانه من نفعهم  وإحباط أجره وعمله بالرياء.

 والنفس هي الحجاب الأكبر بين العبد وربّه فإنك لن تصل إلى التعزز بمولاك إلاّ من طريق تذللـك إليه، ولن تدرك التـقرب منه إلاّ من طريق الافتـقار إليه، ولن تـتحقق بلذة الأنس إلاّ بالانكسار بين يديه.

وعليك أن تعلم يقين العلم أنه ليس لك من عِلمك حرف واحد إن نسبتَ العلم إلى جهدك بالدراسة والتعلم أو التعليم، بل العلم اليقيني أن تعلم أن الله اختارك واصطفاك لحمل أسرار شريعته بفضله، وبجوده طهَّر قلبك لنور كلامه، وبكرمه هيأ فيك الاستعداد للعمل بأمره واجتـناب نهيه، متيقِّـناً قوله تعالى:    

          (   ) (6)، وقوله:  (    )(7).

 كما أنك لو وفقت للتعليم أن ترى بعين الحقيقة أنّ الفضل في ذلك كله لله وحده لأنه بجوده أجلس الخلق بين يديك. فإنك بنوره اهتديت، وبفضله استغنيت وبرحمته تعلَّمتَ، وبكرمه وإحسانه حفظت، ولو وكلك إلى نفسك طرفة عين لهلكت.

فيا أخي العالم: أمِتْ نفسك بمراقبة الله فإنه معك على كل حال، ومع كل نفس، وعند طرفة كل عين، ويعينك على هذا دوام ذكر الله، وكثرة التـفكر بعظمته، مرة من طريق نعمه، ومرة من طريق خلقه، ومرة من طريق التـفكر بلقائه. وحاول معي أن يكون ذكرك لله في قلبك  حيث أنّ القلب موضع نظر الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "(8).

فطهّر موضع نظر الله إليك، وإياك أن تعتـني بطهارة الجسد والثوب والمكان لأداء ركعات جوفاء دون خشية ولا تطهير لموضع نظر الله إليك فيكون قلبك نجساً بنجاسة الغفلات غارقاً في بحار الأهواء ، ساعياً وراء الشهوات والملذات النفسية وحب الأنانية وطلب الدنيا الفانية، فإنّ الدنيا خلقت لك خادمة ذليلة، فلا تكن لها خادماً ذليلاً، ومن تعرف وعرف الله ذلّت  له الدنيا واعتزّ عليها، ومن غفل أو تغافل عن الله اعتزت عليه الدنيا وذلّ لها.

ثم عليك بتقوى الله في اللقمة والكلمة:

فاجتهد أن تأكل الرزق الحلال وإن قلّ، فإن اللقمة الحلال تكون في البطن نوراً يسري في العروق فيمدها بالنور حتى تـتغذى الأعضاء به، فعندها تبصر العين بنور الله، وتسمع الأذن بنور الله، وينطق اللسان بنور الله، وهذه علامة محبة الله للعبد.

ولا تحملك الحاجة أن تذلّ نفسك، أو تظهر بأسك، أو تـتكلف ما لا تطيق من مخالفة العلم والشرع؛ فتبوء بالسـخط والحرمـان، ولكن اصدق بالتجائك إلى الله، وفرِّغ قلبك لله، واطلب الله لله يحقـق لـك وعده
 ()
(9).

فالمطلوب منك أن تكون نقياً بلقمتك، معتمداً على جود ربك، واثـقاً بفضله أن يرزقك من حيث لا تحتسب، ولقد هوى كثير ممن انتسب إلى العلم في هذه الهاوية، ظناً منهم أنّ الدنيا مفتاح الوصول إلى كل خير، ووالله لقد أخطؤوا الطريق نسياناً منهم أنّ الله هو مالك الملك المعطي الرازق القائل في الحديث القدسي:

"يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه".

ومثل اللقمة الكلمة:

فاتقِ الله بكلامك فإن عليك رقيباً عتيداً (ٌ)(10)، فلسانك قلمك، وريقك مداده، و "كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلاّ أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله تعالى" (11).

 فلا تـنطق إلاّ بما تحب أن تراه يوم القيامة في صحيفة حسناتك ثواباً، وعوّد لسانك النطق بالخير والدلالة على الخير، والتواصي بالحق  والتواصي بالصبر، علّم محبة الله، ودلّ على الله، وذكِّر بالله، وأرشد إلى دين الله، وفقّه بكتاب الله، ووجِّه إلى مخافة الله، وَأْمُر بالمعروف وانْهَ عن المنكر، واقرأ القرآن بالتـفكر، وانشر السنة بالعمل، وأكثر من الأذكار والأوراد وتلاوة القرآن، واتخذ الإرشاد ديدنك، والتذكير بلقاء الله دينك، ولا تـقْصُر تعليمك على الآخرة فقط فهو نقص في التعليم، بل علِّم الدنيا والكسب فيها، والتبكير للعمل فيها، وكيفية استخدامها لدين الله لتجمع بتعليمك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلاً على الناس"(12).

واعلم أن لأهلك وجوارك والناس أجمعين حقوقاً عليك بتعليمهم وتوجيههم، فإن قصَّرت فسوف يسألونك يوم القيامة بين يدي الله (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ  إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(13).

 وإياك أن يزل لسانك بكذبة أو غيبة أو نميمة، فالعالم مُنَزَّه من ذلك، وإياك والسب والشتم واللعن فإنها من أخلاق السفلة،  واجتـنب الطعن والتـنقيص وإظهار عيوب الغير وإن كانت حقاً فالعالم من غضَّ عن النقائص ورأى الكمال والفضائل، فعين الكمال لا ترى إلاّ الكمال.

وإياك والتعيـير للغير أو إظهار الشماتـة به, خاصة إذا آذاك وانتصر الله لك, بل سل الله له العفو والمغفرة, واجعل التـقوى دائماً وقاية لك من إيذاء الخلق أجمعين.

وانظر إلى خلق الله أنهم خير منك عند الله لئلا تعلو بعلمك على أحد فيكون عند الله خيراً منك. واتصف ما استطعت بصفة الوقار والهيبة لا بالملبس والمظهر, ولكن بملء قلبك بهيبة الله وهيمنة جلال الله على جوارحك, واصدق علمك بعملك حتى ينفذ علمك في قلوب الخلق فإنّ ما خرج من القلب سقط في القلب، وما خرج من اللسان كان حظه الآذان.

وابذل جهدك أن تربي الناس على آداب الشريعة المستـنبطة من السنة الشريفة، فإنّ للمربي منزلة لا يدركها من علم الأحكام فقط، قال علي رضي الله عنه:( لولا المربي ما عرفت ربي). فالمربي هو من عرّف الخلق بالله حباً وتعظيماً ومهابة وطاعة، فيبذل الخلق له قلوبهم وحياتهم، ولا تعتمد على تعليم الأحكام إلا بعد تعليم الإيمان فالمنفّذ للأحكام هو الإيمان.

وأوصيك أخي العالم أن توقف نفسك ووجودك لنشر علمك وتعليم الخلق ودلالتهم على الله ورسوله والشرع المطهر، عملاً وتخلقاً واتّصافاً، فإن الله تعالى أخذ العهد على العلماء أن لا يكتموا من علمهم شيئاً، قال تعالى: ( )(14).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علم علماً ثم كتمه ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نـار" (15)، ولا تستـقل من جلس معك؛ فإنّ طالب العلم طالب الرحمة، ولعل الله أن يفتح عليك ببركة طالب مخلص، ولعله أن يكون سبب خلاصك وإخلاصك.

فالعالم هو الذي يُشغل كله بالله لله، ويعمل لله بالله، ويطلب الله لله، ويوجّه الخلق إلى الله بنور الله، ويجذب الخلق بروحه من محبة الأغيار إلى التولّه بحب الله، ثم صحبة الأبرار  فهو الجسر الذي تطؤه الخلائق للوصول إلى الله وشرع الله لتحقيق خشية الله.

واحذر أخي العالم كل الحذر من تدخلك بالسياسة ومقارعة الحكام، أو منازلتهم أو التهجم عليهم، أو ذكر شيء من مثالبهم أو نقائصهم، فإنما أنت طبيب مداو ٍ، ولست بقاضٍ حاكم، فانظر إلى الحاكم أنه أخوك فانصحه، أو ابنك فذكِّرْه، أو أبوك فقدِّره واحترمه.

واعلم أنّ له البيعة في عنقك فأدِّ له حقها بالموعظة الحسنة والكلمة الطيبة والحكمة الحكيمة، ولا يغرنك من ذَكَر الحديث الحق وأراد به الباطل وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(16).

فالحديث أثبت العندية أن تذهب إليه ولعنده وتجلس معه على بساط البحث والمداولة متصفاً بالأنس واللطف في مذاكرتك له، عملاً بقوله تعالى: ()(17).

 وقدّم للحاكم النصيحة على انفراد من غير أن يكون لك حظ أو مصلحة في نصحك إلاّ النفع العام لدين الله وخلق الله ومنفعة الحاكم والوطن، وبيّن بنصيحتك ما يدفع السوء والشر عن الحاكم والأمة والوطن.

 وإياك والممالأة للحاكم والمداهنة والمدح المفرط،  فإنّ ذلك مما يسقط هيبتك وكرامتك عنده، وإياك وإظهار الغضب عنده فإنك بذلك تعرّض نفسك لغضبه وعدم الانتـفاع منك، واحذر أن تذكر للحاكم نقصاً على أحد ممن  يحبهم أو يكرمهم فإنه بذلك يكرهك ويحقد عليك،  واذكر الحاكم دائماً بما قدم من عمل فيه نفع العباد والبلاد.

 واجعل همك الوحيد عند لقاء الحاكم الإسلام والتعريف به وإظهار جماله، وبيان كماله.

واعلم أخي العالم أنك إن جالست الحاكم وانبسط معك بالحديث، وانشرح صدره لمجالستك فإياك أن تظن أنك تدرك منه كل ما تريد، أو تحقق منه ما تطلب، بل تيقن أنك إن أدركت عشر ما طلبت فقد حقـقت نجاحاً، وإن استجاب لك بنصف العشر فقد أدركت نجاحاً، وإن نفّذ لك من مرادك واحداً بالمائة فقد وفقت بالنجاح، وإن لم يمكن لك تحقيق شيء بل استطعت أن تدفع من السوء عن الإسلام والدعوة ولو واحداً بالمائة فاعلم أنك قد حظيت بالنجاح الموفق؛ فلا يغضبك ذلك، ولا تـنفعل ولا تحزن، واعلم أن الزمن، يحلّ كثيراً من العُـقد، لذلك عامل بسعة الصدر، وكثرة الحلم، وقوة الصبر؛ لتدرك ما تـنال بعد فضل الله عزّ وجل ّ.

أخي العالم: إنّ للعالم صفة أو صفات عليه أن يتصف بها ليكون أهلاً لاقتداء الخلق به، فالعالم لا يمشي إلاّ إلى خير يريد به الأجر، فهو في مشيته حليم وقور غاضّ الطرف خازن اللسان رفيق متأدب, وفي خلوته تجده تالياً للقرآن, مشغوفاً بذكر الرحمن, متـفكراً بالنعم, مؤدياً لها دوام الشكر, مستجيراً بربه, يخشى على نفسه من الشيطان، يحفظ السمع والبصر واللسان بمراقبة الله، لا يصحب إلاّ من يعلّمه شرعاً أو يتعلم منه آية أو سنة أو أدباً، أو يتذاكر معه علماً أو قرآناً، همه الفهم عن الله فيما أمر ونهى، وعزمه التـفقه بكتاب الله فيما يعمل أو يذر، إن ازداد علماً يخشى أن يكون عليه حجة لذلك يسارع إلى العمل والتخلق به، وإن توقف عن تعليم يخاف من السؤال بين يدي الله، يستغفر الله على كل حال، ويندم على زمن صرفه على غفلة،  يبكي سراً من خشية الله، ويبتسم نهاراً رجاء رحمة الله، نفسه منه في تعب دائم، والناس منه في راحة تامة، يحب الخير للخلق أجمع، ويكره لهم السوء بكل وجوهه، متواضع بين يدي الله، خادم لعباد الله، إن طُلبت منه حاجة قضاها، أو مساعدة لضعيف أدّاها، أو معونة ليتيم أو أرملة أو مسكين غذّاها، حَسَنُ المداراة لجلسائه، رفيق لطيف بمن يسائله،  يتجافى عن  الدنايا، ويبتعد عن الرزايا، ويفرُّ إلى الله من الخطايا، صبور على جهل الجاهلين،  حليم على جفاء الناكثين، لا يخوض فيما لا يعنيه، ولا يستمع لما يشقيه، ولا يُعنِّف سائلاً بقبيح لئلا يخجله، يجتهد برأيه بما يوافق الكتاب والسنة مع ملاحظة مسؤوليته بين يدي الله فيما اجتهد، ولا يستحيي إذا لم يعلم أن يقول: لا أعلم. ويجتـنب إجابةً على سؤال يورث فتـنة أو يوقع الغير بمحنة، وإن اشتبه الأمر عليه رده إلى غيره من العلماء مثله كالطبيب يضع الدواء حيث يعلم منه الشفاء.

لا يماري أحداً من العلماء، ولا يجادل أحداً من الفقهاء، بل يداري بنشر حكمته، ويبين طريق علمه، فهو حريص على أن لا تـفوته ثانية من الزمن مشغولاً فيها عن الله، فهو دائماً يحب خطأه وصواب غيره لئلا يدخل تأثراً على أحد من المسلمين، لا يؤاخذ غيره بالعثرات، ولا يفشي سِرَّ من عاداه، ذليل للحق، عزيز عن الباطل، يكظم غيظه عن المُعادي من غير شحناء ولا بغضاء، يخالق الخلْق بجميل الأخلاق على سلامة القلب وصفاء السريرة، إن نظر إلى فضل الله عليه بكى ذلاً بين يدي من أنعم عليه، ونطق بالشكر لمن جعله طبيباً لقلوب أهل الجفا، حبيباً وقرة عين لأهل الصفا من العارفين والأولياء، يستغني بالله عمن سواه، ويفتـقر إلى الله من كل السوى، يأنس بالله وحده فهو لا يغيب عنه ولا يغفل عن ذكره، غلبت عليه أربعة أشياء: البكاء، والخشية، والطاعة، والتذلل؛ قال تعالى:

 (   )(18).

وأوصيك أخي العالم أن تكون زاهداً بالدنيا لا فاقداً لها، والزهد ليس هو ترك العمل والكسب من الوجه الحلال؛ بل الزهد الحقيقي هو أن تملك الدنيا ولا تملكك الدنيا(19)؛ كسيدنا عمر وعثمان رضي الله عنهما مَلَكَا ثم زهِدا.

والزهد أن تستغني بالمال من غير أن يشغلك عن علمك أو تعليمك، أو عن ذكرك، أو يُنقص فيك خشيتك ومراقبتك لله تعالى. فالعالم الغني السخي المعطاء أزهد من الفاقد الفقير المشرف بعينه إلى مال الغير، و"اليد العليا خير من اليد السفلى" (20)، فازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس وازهد فيما عند الحاكم يقدرك الحاكم، واطمع فيما عند الله يحبك الله ويحبوك.

 واعلم أنّ العالم إذا مَدَّ يده ولو إلى العلياء نال الذلة وانكسار النفس، والعالم داعية الحق وكسْر نفسه بالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، ورحم الله الإمام الشافعي(21) حيث يقول:(22) [الخفيف]

            همتي همة الملوك ونفسي        نفس حُرٍّ تَرَى المذلَّة كُفرا

فاعمل بيدك واجتهد بهمتك، وابذل لكرامة الحياة جهدك، وصُنْ ماء وجهك بجدك، واكتسب الحلال فهو جهاد، واصدق الله في طلب العلم؛ فإن الله قد تكفل برزق طالب العلم.

وأخيراً -أخي العالم-: أودعك نصيحتي خالصة لله تعالى أشغل قلبك بالله، وتوجه إليه بكلّـيّـتك، وأقبل عليه بقلبك، واستغرق النهار في التعلم والتعليم الخالص لله، وفي الليل بالتوجه والعبادة لله مع التذلل والانكسار إليه، والتواضع والافتـقار لديه يعطك من غير سؤال، وينفحك من غير نوال، فهو العليم بنا، الخبير بأحوالنا، وهو (ُ)(23).

ولتـتميم الفائدة والنصيحة أبين لك بعض ما وفقني الله له، وتـفضل به عليّ من أوراد وأذكار أذكرها لك لعلك تلحق بالقوم، وتـنال صحبتهم والقرب إليهم  (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ  إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (24)، وكم كنتُ ضنيناً على أن لا أبوح بشيء من هذا ولكن دفعني إليه شيئان: الأول: خشية كتمان العلم. والثاني: حبي لك ولخلق الله أجمعين أن ينهجوا النهج الصالح رجاء رضوان الله تعالى، ولتعلم ضعف همتي وتـقصيري فتكرمني بدعوة صالحة لعلي أجد فيها برد رحمة الله تعالى، فتكون قد أحسنت إلى أخيك. وأسأل الله أن يكافئك عني بخير الجزاء، ولتـشتد بعد ذلك همتك فترتـقي بها عن حالة المقصرين مثلي، وتكون مثالاً يُحتذى.

بتوفيق الله لا أعلم أنه فاتـتـني صلاة الفجر مع الجماعة منذ كان عمري السابعة وإلى كتابة هذه الوصية إلاّ في ساعات مرض مقعد أو إنهاك تُعَدُّ أيامه في حياتي على الأصابع، وأرجو من الله الثبات حتى الممات.

 ومنذ سن الرابعة عشرة ما صليت الفجر إلاّ كان بعده مجلس علم إلى طلوع الشمس ثم أصلي الضحى في أكثر الأحيان وبعدها المطالعة والكتابة وقضاء بعض الحوائج والأعمال لي ولبعض الأحباب إلى صلاة الظهر جماعة، ثم مجالسة من له أسئلة وحوائج، وبعدها الجلوس على مائدة الله التي أسمع فيها النداء ()(25).

 فإن كنت في بيتي حدَّثْتُ أهلي، وإن كنت مع أحبابي حدثتهم وذكَّرتهم، وإن وجدتُ وقتاً اضطجعت نصف ساعة قيلولةً، ثم أنهض إلى صلاة العصر مع الجماعة، ثم بعدها أقوم إلى تهيئة المطالعة للمجالس المسائية التي تكون بعد صلاة المغرب جماعة، من مجالس تـفسير القرآن الكريم إلى ما بعد العشاء، حيث تُصلى جماعة. وبعدها أنطلق إلى مجالس خاصة بالدعوة، أو الذهاب إلى البيت حيث يبدأ قيام الليل مع الأهل، وأقله بفضل الله سبع ركعات فيها بعض التطويل ثم آوي إلى الفراش، حيث تكون المطالعة ساعة أو ساعتين. وبعدها أبدأ وردي بالاستغفار مائة، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله مائة، ثم التهليلة المباركة من خمس مائة إلى ألف، ثم تلاوة يس والواقعة وتبارك، ثم قراءة ورد النوم من قراءة آية الكرسي إلى المعوذات، ثم التسابيح الواردة مائة حيث يكون قد انتهى الثلث الأول من الليل، وأستسلم للنوم منقاداً ممتـثلاً لأمر الله.

ثم اليقظة في أول  الثلث الأخير  حيث يبدأ وردي مع الله بالتهجد ست ركعات، خصصت فيها الركعتين الأوليين للثـناء على الله بما يليق بجلاله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق  بجنابه؛ منها: اللَّهم صلّ على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عني يا أرحم الراحمين، اللّهمّ اجزِ عنَّا سيدنا محمّداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله. اللّهمّ اجزِ عنَّا سيدنا محمّداً صلى الله عليه وسلم أفضل ما جازيت نبيّاً عن أمته، اللهمّ أعطِ سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة العالية وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد.

اللهمّ أكرمني بكمال محبة سيدنا محمد ووفقني لكمال اتباع سيدنا محمد واجمعني بروح سيدنا محمد ظاهراً وباطناً في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين. ولكل سجدة صيغة ودعاء مختص بها من الثناء.

وفي الركعتين الثانيتين خصصت السجدة الأولى للدعاء لشيخي ومربي روحي وإمداد قلبي بما يلهمني الله ومنه: اللهمّ أعطِ شيخي سؤله وبلِّغه مناه وحقق له آماله وأيده بروح منك وانفحه بنفحات جودك، وأيده بإمدادك، واجعل كلامه نافذاً في قلوب الحكام، وانصره على أعدائه، وأقرَّ عينه بأهله وأولاده وإخوانه، وارفع عندك مقامه وأعلِ درجاته، واجمعني به مع نبيك في أعلى درجات الجنّة، واجعلني قرة عين له في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين. إلى غير ذلك مما يفتح الله عليّ.

والسجدة الثانية خصصتها للأحباب عامة من أحبابي في بيروت وحلب واللاذقية ودمشق وأينما حلوا وحيثما ارتحلوا. ثم أخصص الدعاة بأسمائهم سائلاً لهم الثبات والصدق والإخلاص وأن يحقق الله على أيديهم نشر الإسلام في العالم، وأن يكونوا أهلاً لصحبة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يؤلف الله بين قلوبهم، ويطهر أفئدتهم.

 ثم أخص من أحسن إليَّ بقولي: اللهمّ إني أسألك بعزتك وفضلك لكل من أسدى إليَّ معروفاً قَلّّ أو جَلَّ أن تبارك له في رزقه وتوسِّع في عطائه، اللهمّ نَوِّر له بصيرته، واشرح بالإيمان صدره، ووفقه لمرضاتك، وارزقه صحبتي في الدنيا واللقاء معي في الآخرة، على حوض نبيك المصطفى و .... إلى غير ذلك .

ثم خصصت السجود الأول من الركعة الثانية(26) بالدعاء للأولاد والذرية، بالرضا عليهم والتوفيق لهم وأن يجعل الله الولاية  والعلم والهداية في ذريتي إلى يوم الدين. ثم الدعاء للوالدين دعاءً طويلاً.

ثم خصصت السجود الثاني من الركعة الثانية بالدعاء لنفسي لا أطلب فيه إلاّ بعض قولي: اللهمّ اجعلني أذل المتذللين إليك، وأفقر المفتـقرين إليك. اللهمّ أنا الذليل الفقير المسكين المستجير، خضعت لك رقبتي،  وذلّت بين يدي عظمتك نفسي. أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم. اللهمّ اجعلني أهلاً لنشر دينك وتبليغ شريعتك، وحقق على يدي دلالة خلقك عليك، وتوجيه عبادك إليك، واجعل على يدي نصرة دينك وتبليغ سنة نبيك.

اللهمّ اجعلني لك ذاكراً، إليك خاشعاً، بين يديك ذليلاً، إليك مخبتاً، ولا تجعل لنفسي حظاً في حياتي، واجعلني من أهل القرب إليك والأنس بك ....الخ.

وجعلت الركعتين الأخيرتين مخصصتين لشكر نعم الله الظاهرة والباطنة. أقرأ فيهما سورة يس؛ أربع صحائف في الركعة الأولى، واثـنتين في الثانية، وأطيل بفضل الله الشكر بما يفيض الله عليّ ويلهمني، ولله الحمد أن ألهمني الحمد لحمده حيث إنّ كل حمد يحتاج إلى حمدٍ، فللّه الحمد حمداً يعجز الحمد عن حمده، حمداً يضيق الدهر عن الإحاطة بحمده، حمداً تعجز ملائكة الله وخلقه عن حصر عدّه كما يليق بجلاله وسلطانه وعظمته، حمداً دائماً متصلاً إلى يوم لقائه.

 ثم أبدأ بالاستغفار والتوبة سبعين مرة، وأختمها بسبع وعشرين مرة: اللهمّ اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. وما بقي من زمن يصرف بالتوجه إلى الله، والذكر القلبي حتى يؤذن الفجر، وذلك كل ليلة من صيف أو شتاء. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

(1) أخرجه الحاكم وابن عساكر عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. أنظره في (كنز العمال، 28919).

(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن مسروق مرسلاً. هو حديث حسن.انظر(الجامع الصغير 227:2، رقم :6240).

(3) أخرجه ابن أبي شيبة والحكيم عن الحسن مرسلاً، وأخرجه الخطيب عنه عن جابر. حديث حسن. انظر: (الجامع الصغير، 2: 154، رقم 5717).

(4)  من المتدارك.

(5)  أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً. انظر: (الجامع الصغير، 1: 6، رقم: 12).

(6)(ك: 18: الكهف – الآية: 65).

(7)(م: 55 الرحمن-الآية: 1-2).

(8)أخرجه الإمام أحمد في (مسنده، 2: 285 و 539)، والإمام مسلم في(صحيحه كتاب البر 33)، وابن ماجة في (سننه 9، 60) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(9)(م: 65: الطلاق – الآية: 3).

(10)(ك:50: ق-الآية:18).

(11)أخرجه الإمام الترمذي في (سننه، 131:7 ، رقم 2414، الزهد) وأخرجه ابن ماجة أيضاً في سننه عن أم حبيبه رضي الله عنها.

(12) أخرجه ابن عساكر عن سيدنا أنس رضي الله عنه. وضعفه الإمام السيوطي في (الجامع الصغير، 390:2، رقم 7594).

(13)(ك: 26: الشعراء-الآية:88).

(14)(م:3: آل عمران-الآية187).

(15)أخرجه ابن النجار عن ابن عمرو رضي الله عنهما.

(16) أخرجه الإمام أحمد في (مسنده، 3: 19) وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجة، والطبراني في الكبير،و البيهقي في الشعب عن أبي أمامة، وأخرجه النسائي و البيهقي  في الشعب عن طارق بن شهاب، وقال السيوطي: حديث صحيح. (الجامع الصغير، 1: 161، رقم: 1246).

(17) (ك: 20: طه-الآية:44).

(18) (ك:17: الإسراء-الآية:107 – 108- 109).

(19) انظر حقيقة الزهد في (إحياء علوم الدين -4: 219، الإمام الغزالي).

(20) أخرجه الإمام أحمد في (مسنده: 2: 4 و 67) والطبراني في الكبير عن ابن عمر رضي الله عنهما. حديث صحيح.(الجامع الصغير، 2: 658 ، رقم 10027).

(21) هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي (150-204 هـ / 767-820م): كنيته أبو عبد الله، وهو أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ولد في غزة وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين. وزار بغداد مرتين. وقصد مصر سنة 199 هـ فتوفي فيها. كان أشعر الناس وآدبَهم وأعرفهم بالفقه والقرآن، قال فيه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ/ 855م): ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منَّة. كان أحذق قريش رمياً يصيب من العشرة عشرة، ثم أقبل على الفقه والحديث بعد الشعر واللغة، وأفتى وهو ابن عشرين سنة، وكان مفرط الذكاء. ترك مصنفات عدة منها: (الأم – 7 مجلدات في الفقه) و(المسند – في الحديث) وغير ذلك كثير. انظر:(وفيات الأعيان، 1: 447) وأعلام الزركلي، 6: 26) وفي حاشيته ذكر لمصادر أخرى.

(22) انظر:(ديوان الإمام الشافعي، 63، تصحيح ومراجعة محمد علي بلطه جي، دار الخير، بيروت-دون تاريخ).

(23) (م: 8: الأنفال-الآية: 40) و(م:22: الحج-الآية 78).

(24) (ك: 26: الشعراء-الآية 88).

(25) (م: 2: البقرة-الآية:172).

(26) أي الركعة الرابعة من التهجد.