منهج سماحته في العبادة

 

لقاءات حوارية أجراها الدكتور زياد محمد حميدان مع سماحته/ مقتطفة من كتاب "العلامة الرباني الشيخ رجب ديب، نبراس دعوة ومنار هداية"/ بتصرّف.
 
العبادة:هي امتـثال أوامر الحق سبحانه مقروناً بالحب والإجلال والتعظيم.
وللعبادة مفهومان خاص وعام:
فالمفهوم الخاص:جاء نتيجة تـقسيم العلماء للعلوم الشرعية، حتى يسهل تدريسها، فجعلوا العبادات في الشعائر المعروفة، وجعلوا قسماً للمعاملات، وآخر للأحوال الشخصية وآخر للعقوبات وآخر للأخلاق.
أما المفهوم العام للعبادات:فهو يشمل كل ذلك، بل كل عمل مقرون بنية التـقرب إلى الله وإن كان من المباحات، كالآكل للتـقوّي على طاعة الله، وعشرة الرجل لأهله ليكفّ نفسه عن الحرام، وإدخال السرور على العيال، والسعي لكسب الرزق، والترفيه عن النفس لتجديد النـشاط.
قال سماحته فى بداية حديثه عن منهجه فى العبادة:
إن أمور العبادات أمورٌ خاصة بين العبد وربه، لا أحبّ أن يطّلع عليها أحدٌ، غير أن الإجابة على السؤال واجبةٌ، وبما أنني مضطر للإجابة أقول: إني لا أذكر عباداتي من طريق الفخر ولا إظهار الجهد؛ لأنني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، والفضل في ذلك كله يعود لله وحده الملهم والمتـفضل والموفّق، وإن ما أذكره هو محض نعمة الله عليّ، لا حول لي فيها ولا قوة، ولكن ليعلم طلاب العلم تـقصيري في طاعاتي، فيكرموني منهم بدعوة صالحة، علها تـنفعني بعد موتي، أو تدركني بتـلك الدعوات رحمات ربي، إنه عفو غفور ستار للعيوب.
س: هلا ذكرتم لنا فضيلة الشيخ شيئا من ذكركم ودعائكم؟
بفضل الله وتوفيقه سلكت طريق الذكر عندما بلغت من العمر أربعة عشر عاماً، وأخذ الذكر مني مأخذاً جذبني عن كل ميل والتـفات إلى الغير، إلى سن السابعة عشر حيث استلمت الإمامة في مسجد الصلخدية، وفي سن الثامنة عشر استأذنت شيخي بالخلوة في المسجد فأذِنَ لي، فمكثت فيه أربعة أشهر إلا عشرة أيام، لم أقابل فيها أحداً، ولم أر فيها إنساناً، وعكفت على الذكر الدائم في الليل والنهار، لم أقم عنه إلا عند صلاة الفريضة، حيث أضع الغطاء على رأسي حتى أقف في المحراب، فإذا أنهيت صلاتي رجعت إلى الذكر في الخلوة، ولم يكن لي طعام إلا تمرة أو تمرتين في اليوم، وكان ذكري دائماً من غير نوم، حتى حدا بي الأمر من لذة الذكر أن وضعت الملح في عيني حتى لا أنام ثم وضعت الفلفل الأسود (وأنا لا انصح بهذا أبدا) لكني من شغفي بالذكر نسيت نفسي، وبعد انتهاء الخلوة وعودتي إلى الحياة الطبيعية بإذن شيخي كان ذكري لا يقل في اليوم والليلة عن عشر ساعات،  ـ وثمان ساعات اذا قصرت  في الذكر  كل يوم ثمان ساعات ـ كنت أضرب رأسي بالنعال وأقول: عبد يعبد ربه كيف ترجو النجاة وأنت في هذا التـقصير؟ واستـقمت على هذا بقية عمري، حتى صار الذكر ديدناً من غير تكلف، وكنت أشعر بما حولي من أرض وجدران أنها في ذكر دائم.
وأما دعائي فما أدري أني خرجت من داري أو دخلت أو سلكت طريقاً أو مكاناً إلا والدعاء من قلبي على لساني لا يفارقـني، وكنت أشعرُ بلذة في دعائي عندما أقول: يا الله يا رب، وأشعر كأني بين يديه أناديه ويلبيني، وما وجدت بعد الذكر وتلاوة القرآن لذة تعادل لذة الدعاء، ويكفي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة ".
س: كيف كانت قراءتكم للقرآن الكريم؟
بتوفيق الله تعالى عكفتُ على حفظ القرآن الكريم وأنا صغير، وأتممت الحفظ في الرابعة عشر من عمري، وأخذ القرآن من قلبي ولبي، فكنت لا أتكلم إلا بالـقرآن حتى أنني كنت أكرر قراءة القرآن في النوم؛ كما ذكرت لكم أنني ربما قرأت وأنا نائم خمسة أجزاء أو أكثر، وكان هذا في كل أوقاتي، ثم قمت بتحفيظ القرآن وإقرائه حتى ختم القرآن مئات الشباب والشابات بفضل الله وأجزتهم بتحفيظه وإقرائه.
وكانت لي قراءتان في اليوم؛ قراءة تكرار خشية النسيان، وقراءة تدبرٍ وتـفكرٍ وتخلقٍ وعملٍ.
س: هل لكم أن تخبرونا عن حالكم في الصلاة وقيام الليل والتهجد؟
انحال العبد سرٌّ بينه وبين ربه، لا يجوز كـشْفهُ، ولكن سوف أخبركم بظاهر الأمر، إني ما قمت إلى الصلاة مرة إلا بعد أن يكون لي ذكر لله ، وحضور ومجالسة مع الله عملاً بقوله تعالى:
 ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )(الأعلى:14-15) .فإذا وقـفت في صلاتي استحضرتُ عظمة الله وجلاله، فتأخذني قـشعريرة، ثم أذكر نعمة من نعم الله عليّ من الإسلام والإيمان والتوحيد، وبعدها أبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله رب العالمين، وأجد عند شكر تـلك النعم عظمة المنعم وتـقصيري في طاعته، فأخشع بين يديه راكعاً، ثم أرفع شاكراً، ثم أسجد بين يديه متـذللاً، وهكذا في صلاتي. وما أعظمه من طرب ونغمة في الـقلب عندما يشعر العبد أنه بين يدي ربه يناجيه بكلامه ويُحلّقُ إليه بالذل والتضرع. وما صليت صلاةً إلا تمنيت أن يكون آخِر حياتي فيها، عملا بالحديث: "صلّ صلاة مودّع".
وأما قيام الليل بعد العشاء وقبل النوم فهي بين أربع ركعات وست ركعات، أختمها بالوتر وأختم بها عملَ يومي،وذلك بعد إمضاء الثـلث الأول من الليل في دراستي ومطالعتي، فإذا انتهى الثـلث الأول اضطجعت لأسهو سهوة لا تـزيد عن الساعتين إلى الثلاث إن طالت، ثم أقوم للتهجد حيث أصلي ست ركعات أقرأ فيها ما تيسّر وأختم الركعتين الأخيرتين بقراءة سورة يس، ولقد بينت كيفيتها في كتاب(وصايا الهدى)، فإذا كان وقت السحر قبل الفجر بقليل اشتغلت بالاستغفار سبعين مرة، عملاً بقوله تعالى: ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )(الذاريات:18). ثم لازمت سبعاً وعشرين مرة:
   ( اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات)، وذلك كل ليلة بتوفيق الله.
س: متى تكون مطالعتكم ومدارستكم للعلم؟
لقد بينت لكم أني قسمت ليلي ثلاثة أقسام:الثلث الأول للمطالعة والدراسة، والثـلث الثـاني للنوم، والثـلث الثـالث للتهجد والتـقرب إلى الله.وكان لي بعد صلاة الفجر درس قائم في الحديث الشريف إلى طلوع الشمس، حيث أعود إلى البيت فأسهو في بعض الأحيان وقـتاً قصيراً لا يبلغ أربعين دقيقة، ثم أقوم إلى الدراسة والكتابة إلى قبيل الظهر، حيث أستـقبل الأحباب لقضاء حوائجهم والرد على أسئلتهم وتوجيههم.
أما في أيام دراستى فكان طريقي كله في حفظ الحديث وتكرار الـقرآن وملازمة الدروس مع تكرارها، وسبق أن قلت لكم: إن كل درس كنت أقرأه عشر مرات قبل الذهاب إلى المعلم، فإذا درسته رجعت فقرأته ثلاثين مرة، فما من بحث في الفقه أو غيره إلا وقد قرأته أربعين مرة.
س: كيف كان بركم بوالديكم؟
الحمد لله المنعم على عباده المتـفضل على خلقه بجزيل نعمه، إني لأحمد الله وأشكره بكل ذرة من وجودي أن أكرمني ببر والديَّ منذ الصغر، فما كنت آكل في صغري لـقمة إلا بعد أن يأكل والدي منها، وكنت كثير الحياء منهما، وعظيم التـقدير والإجلال لهما، وما رفعت يوماً بصري إليهما غاضباً، ولا رفعت صوتي أمامهما تأثراً، ولا مشيت بين أيديهما أبداً، وما جلست عند دخولهما أو دخول أحدهما، بل كنت أقوم عند دخول أحدهما، ولمّا تـفضل الله عليّ بجزء من المال كنت أنفق عليهما وأشتهي لهما الطعام الطيب كما كنت أشتري لأخواتي الزينة الجميلة حين أقبض أجري كل خميس.
 وكنت مع والدتي خاصةً أبذل جهدي وأسعى لإدخال السرور على قلبها، بشتى أنواع الممازحة لأضحكها، وكنت إذا أرادت الخروج إلى زيارة بعض الأهل والجيران قمت بسرعة وأخذت نعلها ومسحته لأقدمه لها. مرض والدي مرة فمكثت في خدمته شهراً، تركت فيه زوجتي وأولادي، إلا من زيارة خاطفة، حتى شفي بفضل الله. وكم كان والدي يرضى علَيَّ ويدعو لي بالسعادة، وكذلك الوالدة كانت تكثر من دعائها لي:
 جعلك الله سُكّراً في قلوب الخلق، مع الرضا المتواصل. والحمد لله لقد وجدت أثر ذلك في أهلي وأولادي وأسال الله المزيد من فضله.
س: كيف كانت صلتكم بشيوخكم؟
بفضل الله وتوفيقه، قد رأيت شيوخي هم باب رحمة الله لي، وباب وصالي، بل هم محراب اتصالي، فقد وفقـني الله لتكريم شيوخي بأنواع التكريم والملازمة على أعتابهم، والخدمة لهم مع التواضع والأدب، وما من يوم رددت فيه على عالم كلمة، بل كنت إذا سمعت شيئاً تلطّفت في التـنبيه، وتعطفت راجياً الـقبول، وازداد توقيري وإجلالي لشيخ الروح وعالِمِ القلب، صاحب الوصال، وإمام الاتصال، العارف بالله شيخي الإمام أحمد كفتارو، قدَّسَ الله سره ـ فلقد لزمته من أول عمري، ومنذ نعومة أظافري عبر السنين التي خلت، والتي تعد إلى الآن حول سبع وخمسين سنة، ولا أزال أجد نفسي طفلاً بين يديه، أطلب منه التعطف والرضا، وأرجو العفو والـقبول، ولا أجد ما أقوم به بحقه؛ ولو قدمتُ له الدنيا بأسرها، لأنها دار فناء، وقد قدم لي حياة البقاء، وذقت في صحبته لذة الذكر والإيمان وعرفت بمجالسته فقه السنة والقرآن، واسأل الله أن لا يقطعني عنه في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة وأن يُكسبني رضاه ما حيـيت.
س: ما مفهومكم للعبادة؟
العبادة هي امتـثال أوامر الله واجتـناب محارمه، حيث أنه ما أمرنا الله بأمر إلا وتتحقق بامتـثاله السعادة الكاملة لنا، وما من محرَّمٍ حرَّمه الله تعالى إلا لتحقيق سعادتـنا. والعبادة هي صلة روحية بالـقوى الإلهية الخفية التي تمد العبد الفقير بقوة إلهية خارقة يستطيع بها قهر نفسه وشهواته وشيطانه.
والعبادة صفاء روحي، ترتـقي بالعبد إلى الفضائل وتسمو به إلى الكمالات الروحية والشفافية النفسية والنقاء الـقلبي، بحيث تجعل الإنسان مَـلَكاً في روحه:
               صاحبُ الشهوةِ عبدٌ فإذا          مَـلَكَ الشهوةَ أضحى مَـلَكَا
والعبادة حصن حصين من نزغات الشيطان ووساوسه، ومن تَغَـلُّبِ الهوى وسيطرته. والعبادة لذة تهيمنُ على قلب العبد تـنسيه آلامه وتُذهِبُ عنه همومَهُ وغمومَه. كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة، وإن كثيراً من الصحابة كانت تُـقطع أطرافهم في المعارك، وهم يبتسمون ويفرحون بما أصابهم، لذلك من لم يكن له عبادة لا كمال له ولا صفاء ولا استـقامة.
س: أي جوانب العبادات تركزون عليه أكثر، أو ما أفضل العبادات في حياتكم؟
العبادة أنواع عديدة، وكلها إذا قرنت بالإخلاص كان لها أثرها البليغ في حياة العبد وإن أحب العبادات عندي ذكر الله بعد صلاة الفجر، يتبعها قراءة القرآن الكريم، عملاً بقوله تعالى:
 ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ )(يس:69).فإذا ارتـفع النهار فطلب العلم الشرعي، ثم الصلاة على أوقاتها جماعةً، والسعي لـقضاء حوائج العباد، وصيام النفل عند الاستطاعة، فإذا كان العصر فسعي إلى مجالسة الصالحين، وكسب الزمن بعد المغرب بمجالس العلم والاغتراف منها. فإذا دخل الليل نصب القدمين بالـقيام لـقوله تعالى:( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ )(الشرح:7). ثم الاضطجاع قليلا، وبعدها الختم بصلاة التهجد، فالمناجاة والدعاء والاستغاثة بالله لي ولجميع الخلق. هذا ما أفضله في حياتي أن تكون بين ذكر وقرآن وصلاة ومجالس علم وتهجد وأقول: لولا صحبةُ الأخيار وكثرة الأذكار والقيام بالأسحار ما اخترت البقاء في هذه الدار.
س: هل يمكنكم وضع برنامج محدد للعبادة؟
وضْعُ البرنامج يعود لهمّـة المؤمن واستعداده ونشاطه، بل يعود لخالص محبتـه لله، وكمال اتباعه لرسول الله، ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ )(الاسراء:84)  فما يجده عبدٌ عملاً كثيراً يمكن أن يراه آخر تـقصيراً أو إهمالاً، لذلك من أحبَّ أخلصَ، ومن أخلص بلغ ونال الفضل والعطاء.
س: هل لفضيلة الشيخ نشاطات اجتماعية ثقافية أدبية رياضية ترفيهية خارج نطاق العلم والدعوة والعبادات؟
هذا أمر مسَـلّمٌ به، بل هو مستحبٌّ للإنسان عند الملل، يروِّحُ نفسه حتى لا ينقطع عن العبادة، فإذا وجدت نفسي قد أدركها الملل ـ وقليلاً ما أجده ـ لجأت إلى السباحة أو المشي لوقت لا يتجاوز الساعة، وأنا في ذلك أكرر القرآن، وإذا دعيت إلى أي حفل أجبت على الأغلب، لأقوم بإرشاد الخلق ونشر الدعوة قدر المستطاع.